قبل الإسلام، رزحت القدس تحت الاحتلال الروماني البيزنطي لأكثر من عشرة قرون، وذلك ضمن رزوح الشرق تحت هذا الاحتلال منذ الإسكندر الأكبر (356 - 323 ق. م) -في القرن السابع قبل الميلاد- وحتى التحرير الإسلامي في القرن السابع للميلاد.
وإبان هذه القرون العشرة كانت القدس -التي بناها العرب اليبوسيون في الألف الرابعة قبل الميلاد- محتكرة للرومان وحدهم، سواء أكان ذلك في عصر وثنيتهم أو في عصر نصرانيتهم.
ولقد كان الفتح الإسلامي للقدس سنة 15هـ 636م بداية صفحة جديدة ومشرقة في تاريخ هذه المدينة المقدسة، التي باركها الله للعالمين -كل العالمين- حتى قبل عصر أبي الأنبياء الخليل إبراهيم u في القرن التاسع عشر قبل الميلاد {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]؛ فالمسلمون هم الذين جعلوا اسمها عنوانًا على قدسيته فسموها القدس.. والقدس الشريف.. والحرم القدسي الشريف.. بعد أن كان اسمها "إيليا الكبرى".
والمسلمون هم الذين عاملوها -منذ اللحظة الأولى- معاملة "الحرم" الذي لا يجوز فيه القتال ولا إسالة الدماء.. فحاصروها حتى صالح أهلها، واستجابوا لمطلب البطرك النصراني صفر ونيوس (17هـ 638م) أن لا يتسلم مفاتيحها إلا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40 ق.هـ- 23هـ 584- 644م)، فسار عمر من المدينة إلى القدس وتسلم مفاتيحها، وكتب لأهلها "العهد العمريّ"؛ وثيقة تاريخية في الحقوق الدينية والمدنية للإنسان.
والمسلمون هم الذين أعلنوا ومارسوا مبدأ احترام مقدسات الآخرين منذ اللحظة الأولى لدخولهم هذه المدينة المقدسة، عندما رفض عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة -بعد أن عرض عليه صفر ونيوس ذلك- احترامًا لخصوصيتها النصرانية، وحتى لا تتأسس شبهة ملكية إسلامية في هذه الكنيسة التاريخية.
والمسلمون هم الذين أعادوا الطهر والطهارة إلى الأماكن التي سبق وعُبد الله فيها -بالقدس وفلسطين- بعد أن حوَّل الرومان كثيرًا من هذه الأماكن إلى تلال من النفايات والقاذورات.. حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفرش رداءه، ومعه صحابة رسول اللهيفرشون أرديتهم، ويرفعون هذه النفايات والقاذورات، ويعيدون الطهر والطهارة إلى الأماكن التاريخية التي سبق وعُبد الله فيها في هذه المدينة المقدسة، وفي عموم فلسطين.
والمسلمون هم الذين أشاعوا قدسية القدس بين جميع أصحاب المقدسات، فعاد إليها اليهود، بعد أن كانوا مطرودين منها.. وظلت هذه السُّنَّة الإسلامية مثبتة طوال عهود الحكم الإسلامي للقدس الشريف.
هكذا تعامل الإسلام والمسلمون مع هذه المدينة المقدسة، التي بارك الله فيها كما بارك حولها.. فماذا كان صنيع "الآخر" مع هذه المدينة المقدسة؟!
إن الصليبيين -عندما عادوا لاختطاف القدس من التحرير الإسلامي سنة 492هـ 1099م قد أبادوا -ذبحًا وحرقًا وقتلًا - كل من وجدوه فيها.. حتى الذين احتموا بمسجد قبة الصخرة ذبحوهم حتى "سبحت خيول الصليبيين بدماء المسلمين -في هذا المسجد- إلى لجم الخيل"، وكتبوا إلى البابا الذهبي أوربان الثاني (1088- 1099م) يقولون: "يا ليتك كنت معنا لتشهد خيولنا وهي تسبح في دماء الكفار (أي المسلمين)" كما يقول أحد رجال الدين النصارى الذين أرَّخوا -بواسطة شهود العيان- لهذه الأحداث!!
وكما احتكر الرومان هذه المدينة المقدسة عشرة قرون قبل التحرير الإسلامي لها، عاد الصليبيون إلى احتكارها عندما حكموها قرابة التسعين عامًا!
واليوم يهوِّدها الصهاينة ليحتكروها، رغم أن الإسلام هو الذي أعادهم عندما كسر الاحتكار الذي مارسه معها الآخرون، كل الآخرين!!
الكاتب: د. محمد عمارة
المصدر: موقع صحيفة المصريون